سورة يوسف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


قلت: {ليسجننه}: مفسر للفاعل، أي: ظهر له سجنه؛ إذ الجملة لا تكون فاعلاً على المشهور، وجوزه بعضهم مستدلاً بالآية. وقيل: محذوف، أي: بدا لهم رأي ليسجننه. وقال الإمام القصار، الفاعل هو القسم المفهوم من اللام الموطئة له، أي: بدا لهم قسمهم ليسجننه.
يقول الحق جل جلاله: {ثم بَدَا لهم} أي: ظهر للعزيز وأهله، {من بعد ما رأوا الآيات} الدالة على براءة يوسف؛ كشهادة الصبي، وقَدّ القميص، وقطع الأيدي، واستعصامه منهن، فظهر لهم سجنه. وأقسموا {ليَسجُننَّهُ حتى حين} حتى يظهر ما يكون منه؛ ليظن الناس أنها مُحِقة فيما ادعت عليه. فخدعت زوجها حتى وافقها على سجنه. ورُوي أنه لما أدخل السجن ندَمت زليخاً على سجنه، وعيل صبرها على فراقه، فأرسلت إلى السجان ليطلقه، فأبى، فلبث فيه سبع سنين.
{ودخلَ معه السجنَ فتيان} أي: فسجنوه واتفق أنه دخل معه في ذلك اليوم رجلان آخران، من عبيد الملك: ساقيه وخبازه، اتُهِمَا أنهما أرادا أن يَسُمَّاه، {قال أحدهما} وهو الساقي: {إني أراني} في المنام {أعصِرُ خمراً} أي: عنباً. وسماه خمراً: باعتبار ما يؤول إليه. رُوي أنه قال: رأيت كأن الملك دعاني وردني إلى قصره، فبينما أنا أدور في القصر، وإذا بثلاثة عناقيد من العنب، فعصرتها، وحملت ذلك إلى الملك لأسقيه له.
{وقال الآخرُ} وهو الخباز: {إني أراني أحمل فوق راسي خبزاً تاكلُ}: تنهش {الطيرُ منه}، قال: رأيت كأن العزيز دعاني، وأخرجني من السجن، ودفع لي طيفورة عليها خبز، فوضعتها على رأسي، والطير تأكل منه. {نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين}؛ من الذين يحسنون تأويل الرؤيا. وإنما قالا له ذلك؛ لأنهما رأياه في السجن يعظ الناس ويعبر رؤياهم، أو من المحسنين إلى أهل السجن، كان عليه السلام، إذا رأى محتاجاً طلب له، وإذا رأى مضيقاً وسع ليه؛ فقالا له: فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.
{قال لا يأتيكما طعامُ تُرزِقَانِه} في النوم، {إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكُما} تأويله في الدنيا. أو: لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة؛ لتأكلاه إلا أخبرتكما به، ما هو؟ وما لونه؟ وما صفته؟ وكم هو؟ قبل أن يأتيكما، إخباراً بالغيب، فيأتيهما كذلك؛ معجزة. وصَفَ نفسَه بكثرة العلم والمكاشفة؛ ليكون وسيلة إلى دعائهما إلى التوحيد.
ثم قال لهما: {ذلكما مما علمني ربي} بالوحي والإلهام. وليس ذلك من قبيل التكهن أو التنجيم. رُوي أنهما قالا له: من أين لك هذا العلم، وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما: {ذلكما مما علمني ربي إني تركتُ مِلّةََ}؛ طريقة {قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون} أي: علمني ذلك لأني تركت ملة أهلِ الكفر، {واتبعتُ ملة آبائي إبراهيمَ وإسحاق ويعقوبَ}، وإنما قال ذلك؛ تمهيداً للدعوة، وإظهاراً أنه من بيت النبوة؛ لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه، والوثوق به.
{ماكان لنا}: ما صح لنا معشر الأنبياء {أن نُشرك بالله من شيء} أيّ شرك كان، {ذلك} التوحيد {من فضل الله علينا} بالوحي {وعلى الناس} ببعثنا إليهم، وإرشادنا إياهم وتثبيتهم عليه، {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} هذا الفضل؛ فيُعرضون عنه. أو من فضل الله علينا بالوحي والإلهام، وعلى الناس بنصب الدلائل وإنزال الآيات. ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها، ولا يستدلون بها، فيوحدون خالقها، فهم كمن كفر النعمة ولم يشكرها.
الإشارة: جرت عادة الحق تعالى في خلقه أنه لا يأتي الامتكان إلا بعد الامتحان، ولا يأتي السلوان إلا بعد الأشجان، ولا يأتي العز إلا بعد الذل، ولا يأتي الوجد إلا بعد الفقد. فبقدر ما يضيق على البشرية تتسع ميادين الروحانية، وبقدر ما تسجن النفس وتحبس عن هواها، تتسع الروح في مشاهدة مولاها.
وقوله تعالى: {ودخل معه السجن فتيان}: إشارة إلى أن امتحانه بالسجن كان لتكميل حقيقته وشريعته، فمن رأى أنه يحمل الطعام فإشارة إلى حمل لواء الشريعة، ومن رأى أنه يعصر خمراً فإشارة إلى تحقيق خمرة الحقيقة، فيكون من أهل مقام الإحسان، ولذلك قال: {إنا نراك من المحسنين}، ثم ذكر نتيجة مقام الإحسان هو التوحيد الخاص فقال: {ما كان لنا ان بشرك بالله من شيء}. وذكر أن ذلك ناله من باب الكرم لا من باب العمل، فقال: {ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس}. والله تعالى أعلم.


قلت: الإضافة في {صاحبي السجن}: على معنى (في)؛ كقولك:
يا سَارِقَ الليْلَةَ أَهْل الدَّارِ ***
يقول الحق جل جلاله: {يا صاحبَي السجن} أي: ساكنيه، أو يا صاحبي فيه؛ {أأرباب متفرقون}: متعددون، {خيرٌ أم اللهُ الواحدُ} المتوحّد في الألوهية، {القهّار}: الغالب على أمره، لا يقاومه غيره، {ما تعبدون} أنتم ومن على دينكم من أهل مصر، {من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} أي: ما تعبدون إلا مسميات أسماء من الحجارة، والخشب، سميتموها آلهة من غير حجة تدل على استحقاقها للعبادة. والمعنى: سميتم آلهة ما لا يستحق الألوهية، ثم عبدتموها. {ما أنزل اللهُ بها} أي: بعبادتها {من سلطانٍ}: من حجة ولا برهان. {إن الحُكمُ} في أمر العبادة {إلا لله}؛ لأنه المستحق لها دون غيره، من حيث أنه الواجب لذاته، الموجد للكل، هو المالك لأمره، {أمَر} على لسان أنبيائه {ألا تعبدوا إلا إياه} ولا تعبدوا معه سواه {ذلك الدين القيم} القويم الذي لا عوج فيه، {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} دلائل توحيده، فيتخبطون في جهالتهم. قال البيضاوي: وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة، بَيّن لهم أولاً: رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة، ثم برهن على أن ما يُسمونها آلهة، ويعبدونها لا تستحق الألوهية، ثم دل على ما هو الحق القويم، والدين المستقيم، الذي لا يقتضي العقل غيره، ولا يرتضي العلم دونه. اهـ.
الإشارة: كل من لم يجمع قلبه على مولاه، واتبع حظوظه وهواه، فله أرباب متفرقون بقدر ما يميل إليه قلبُه من هذا العرض الفاني. قال ابن عطية: وقد ابتلي بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا، ويؤملهم. اهـ. وفي الحديث: «خَابَ مَن رَجَى غير الله وضَلَّ سَعيُه، وطَابَ وقَتُ مَن وَثَقَ بِاللِّهِ» ولله در القائل:
حَرامٌ على مَنْ وَحّدَ الله رَبّهُ *** وَأَفرَدَهُ أن يَجتَدي أَحَدَاً رَفدا
فَيَا صَاحِبي قِف بي عَلى الحقِّ وقفَةً *** مُوتُ بَها وَجداً وأَحيَا بِها وَجداً
وَخَلِّ مُلوك الأرضِ تَجهَد جُهدَهَا *** فّذا المُلكُ مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدَى


قلت: (منهما): يتعلق بظن، والظن يحتمل أن يكون بمعنى اليقين؛ لأن قوله: {قضي الأمر} يقتضي ذلك، أو يبقى على بابه.
يقول الحق جل جلاله: قال يوسف: {يا صاحِبَي السجن} المستفتيان عن الرؤيا، {أما أحدُكُما} وهو الساقي، {فيسْقي ربه خمراً} كما كان يسقيه قبلُ، ويعود إلى ما كان عليه، {وأما الآخرُ فيُصلبُ فتأكلُ الطيرمن رأسه}، فقالا: كَذَبْنا ما رأينا شيئاً، فقال: {قُضِيَ الأمرُ الذي فيه تستفتيان}، سبق به القضاءُ في الأزل، وهو ما يؤول إليه أمركما، ولذلك وحده ولم يقل: قضي أمراكما. رُوي أنه لما دعاهما إلى التوحيد أسلم الساقي وأبى الخباز، فأخرج بعد ثلاث وصُلب.
{وقال للذي ظنَّ أنه ناج منهما} يوسف، أي: تيقن، أو غلب على ظنه أنه ناجٍ منهما، إما عن وحي، على الأول، أو باجتهاد بسبب الرؤيا: {اذكُرني عند ربك}؛ عند سيدك، وهو المَلِك، وقل له: غلامٌ سُجنَ ظُلماً، لعله يُخلصني. قال ابن عطية: يحتمل أن يذكره بعلمه ومكانته، ويحتمل أن يذكره بمظلمته، وما امتحن به بغير حق. أو يذكره بهما. اهـ. وقال الورتجبي: يحتمل أن قوله: {اذكرني عند ربك}: عَرَّف له طريقتي مع الله حتى يعرفني أني رسول الله، ويطيعني في طاعة الله، وينجو بذلك من عذابه، ويصل إلى ثوابه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليوحد الله تعالى، ويتخلص من كيد الشيطان، وما معه من الإنسان. اهـ.
{فأنسَاهُ الشيطانُ ذكرَ ربه} أي: فأنسى الساقي أن يذكر يوسف لربه. أو أنسي يوسفَ ذكرَ الله حتى استغاث بغير، فأدبه، {فلبثَ في السجن}، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ الله أخِي يُوسُف، لَوْ لَمْ يَقُل: اذْكرْنِي عند رَبِّك، لَمَا لَبِثَ في السِّجنِ سَبْعاً بَعدَ الخَمسِ».
روي أن جبريل عليه السلام أتاه بعد المقالة، فقال له: مَن أخرجك من الجُبِّ، وخلِّصك من القتل، وعَصَمَكَ من الفاحشة؟ فقال: الله. فقال: كيف تعتصم بغيره، وتثق بالمخلوق، وترفع قصتك إليه، وتترك ربك؟! قال: يا جبريل؛ كلمات جرت على لساني، وأنا تائب لا أعود لمثلها. اهـ. والاستعانة بالمخلوق، وإن كانت جائزة شرعاً، لكنها لا تليق بمقام الأقوياء. {فلبث في السجن بضْعَ سنين} البضع: من الثلاث إلى التسع.؟ رُوي أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين أولاً، ثم سجن بعد المقالة سبع سنين.
الإشارة: النسيان والغفلة التي لا تثبت في القلب، والخواطر التي ترد وتذهب من أوصف البشرية التي لا تنافي الخصوصية، إذ لا انفكاك للعبد عنها. قال تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] فالطيف لا ينجو منه أحد؛ لأنه من جملة أوصاف العبودية التي بها تعرف كمالات الربوبية.
وقد قال تعالى في حق سيد العارفين: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200]؛ فالعصمة التي تجب للأنبياء إنما هي مما يوجب نقصاً أن غضاً من مرتبتهم. وهذه الأمور إنما توجب كمالاً؛ لأنها بها يتحقق كمال العبودية التي هي شرف العبد. فافهم وسلم، ولا تنتقد، فإن هذه الأمور لا يفهمها إلا العارفون بالله، دون غيرهم من أهل العلم الظاهر.
وقال الورتجبي: إن يوسف عليه السلام لم يعلم وقت إيمان الملك، ولم يأت وقت دخوله في الإسلام، فأنساه الشيطان ذكر ربه، في سابق حكمه، على تقدير وقت إيمان الملك، فلبث في السجن إلى وقت إيمان الملك، فنسيان يوسف: احتجابه عن النظر إلى قدره السابق. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8